Wednesday, June 11, 2025 12:00 AM

Card Image

إن فهم أسباب اضطراب طيف التوحد (ASD) هو أحد أكبر التحديات في مجال الطب والعلوم العصبية اليوم. لعقود طويلة، تباينت النظريات وتعددت الفرضيات، من التفسيرات النفسية البحتة التي دحضت لاحقًا، إلى التركيز المتزايد على العوامل البيولوجية. ومع التقدم الهائل في علم الجينوم، أصبحت الأبحاث تشير بشكل قاطع إلى أن التوحد ليس نتيجة لسبب واحد بسيط، بل هو حصيلة تداخل معقد بين الاستعداد الوراثي المتعدد الأوجه والعوامل البيئية المحتملة. السؤال المحوري هنا ليس هل التوحد وراثي؟ بقدر ما هو كيف تلعب الوراثة دورها، وما هي العوامل الأخرى التي تتشابك معها لتشكيل هذه الحالة المتنوعة الأطياف؟

هل التوحد مرض وراثي؟ نظرة تفصيلية معمقة:

لتبسيط الأمر، يمكن القول إن التوحد هو اضطراب ذو مكون وراثي قوي جدًا ومعقد، حيث يلعب التفاعل بين الجينات المتعددة والعوامل البيئية دورًا حاسمًا في ظهوره. هذا يعني أن الوراثة تضع الأساس للاستعداد للإصابة، بينما قد تؤثر العوامل البيئية على ما إذا كان هذا الاستعداد سيتحول إلى اضطراب فعلي.

1. البصمة الوراثية المعقدة (المكون الجيني):

متعدد الجينات (Polygenic):

  • على عكس الأمراض الوراثية التي تنتج عن طفرة في جين واحد محدد (مثل التليف الكيسي أو فقر الدم المنجلي)، يُعتقد أن التوحد في الغالب هو اضطراب متعدد الجينات. هذا يعني أن مئات، وربما آلاف، الجينات المختلفة يمكن أن تساهم في خطر الإصابة بالتوحد.
  • كل جين بمفرده قد يكون له تأثير صغير جدًا، ولكن عندما تتراكم العديد من هذه المتغيرات الجينية أو الطفرات النادرة لدى فرد واحد، فإنها قد تزيد من فرص تطور التوحد بشكل كبير.
  • هذه الجينات المتورطة لا ترمز فقط لبروتينات معينة، بل تؤثر على مسارات بيولوجية متعددة في الدماغ، مثل:
  • تكوين المشابك العصبية (Synaptogenesis): نقاط الاتصال بين الخلايا العصبية.
  • هجرة الخلايا العصبية (Neuronal Migration): حركة الخلايا العصبية لمواقعها الصحيحة أثناء تطور الدماغ.
  • عمليات الالتهاب العصبي (Neuroinflammation).
  • تنظيم تعبير الجينات الأخرى (Gene Expression Regulation).

الطفرات الوراثية المتنوعة:

  • الطفرات الموروثة (Inherited Mutations): يمكن أن يرث الطفل متغيرات جينية تزيد من خطر التوحد من أحد الوالدين أو كليهما. في هذه الحالات، قد لا يظهر التوحد بوضوح على الوالدين لأنهم قد يحملون عددًا أقل من هذه المتغيرات، أو تكون لديهم عوامل وقائية أخرى.
  • الطفرات الجديدة/التلقائية (De Novo Mutations): في نسبة كبيرة من حالات التوحد (خاصة الحالات الشديدة)، تكون الطفرات الجينية جديدة؛ أي أنها لم تكن موجودة لدى أي من الوالدين ولكنها حدثت لأول مرة في البويضات أو الحيوانات المنوية أو في مراحل مبكرة جدًا من تطور الجنين. هذه الطفرات يمكن أن يكون لها تأثير أقوى بكثير.
  • التغاير الجيني (Genetic Heterogeneity): هذا يعني أن أشخاصًا مختلفين مصابين بالتوحد قد يكون لديهم مجموعات مختلفة تمامًا من الجينات المتورطة أو الطفرات، ومع ذلك تظهر عليهم نفس الأعراض الأساسية للتوحد. هذا يفسر التنوع الكبير في شدة الأعراض وطبيعتها بين الأفراد المصابين.

الدليل من دراسات التوائم والأسر:

  • التوائم المتطابقة (Identical Twins): إذا كان أحد التوأمين المتطابقين مصابًا بالتوحد، فإن احتمال إصابة التوأم الآخر يتراوح بين 70% إلى 90%. هذه النسبة العالية تؤكد الدور الجيني القوي.
  • التوائم غير المتطابقة (Fraternal/Non-Identical Twins): تنخفض هذه النسبة إلى حوالي 30%، مما يبرز الفرق بين مشاركة 100% من الجينات و 50% منها.
  • أشقاء المصابين بالتوحد: إذا كان للأسرة طفل مصاب بالتوحد، فإن فرصة إنجاب طفل آخر مصاب بالتوحد تزداد بشكل ملحوظ (تصل إلى 20% أو أكثر في بعض الدراسات)، مقارنة بالعموم السكان.

المتلازمات الوراثية المعروفة:

  • في حوالي 10-20% من حالات التوحد، يمكن تحديد سبب جيني واضح من خلال متلازمة وراثية معينة، مثل:
  • متلازمة كروموسوم X الهش (Fragile X Syndrome): السبب الوراثي الأكثر شيوعًا للتوحد المتوارث.
  • التصلب الحدبي (Tuberous Sclerosis Complex).
  • متلازمة ريت (Rett Syndrome): تؤثر بشكل شبه حصري على الإناث.
  • متلازمة أنجلمان (Angelman Syndrome).
  • وجود هذه المتلازمات يؤكد الرابط الوراثي المباشر في هذه الحالات.

2. العوامل البيئية (العوامل غير الجينية):

على الرغم من قوة المكون الوراثي، لا يمكن تجاهل العوامل البيئية. يعتقد أن هذه العوامل لا تسبب التوحد بمفردها عادةً، بل تتفاعل مع الاستعداد الوراثي لزيادة الخطر أو تعديل شدة الأعراض.

العوامل البيئية خلال الحمل والولادة:

  • سن الوالدين المتقدم: كلما زاد عمر الأب والأم عند الحمل، زاد خطر إنجاب طفل مصاب بالتوحد (خاصة الأب). يُعتقد أن هذا قد يكون مرتبطًا بزيادة الطفرات الجينية الجديدة في خلايا الأب أو الأم مع تقدم العمر.
  • بعض الأدوية: التعرض لبعض الأدوية أثناء الحمل، مثل حمض الفالبرويك (دواء مضاد للصرع)، يرتبط بزيادة خطر التوحد.
  • التهابات الأم أثناء الحمل: بعض الالتهابات الفيروسية أو البكتيرية الشديدة التي تصيب الأم خلال الحمل قد تزيد من خطر التوحد لدى الطفل.
  • المضاعفات أثناء الولادة: مثل نقص الأكسجين عند الولادة، أو الوزن المنخفض جدًا عند الولادة.
  • المسافة القصيرة بين فترات الحمل (Less than 18 months between pregnancies).

العوامل البيئية ما بعد الولادة (أقل تأثيرًا ووضوحًا):

  • البحث مستمر حول عوامل أخرى، ولكن لم يثبت بشكل قاطع أن عوامل مثل اللقاحات (تم دحض هذه الفرضية بشكل قاطع من قبل العديد من الدراسات)، أو السموم البيئية، أو النظام الغذائي هي أسباب مباشرة للتوحد. الأدلة عليها ضعيفة جدًا مقارنة بالأدلة الجينية وتلك المتعلقة بالحمل والولادة.

الخلاصة النهائية:

إذًا، بدلًا من السؤال هل التوحد مرض وراثي؟ الأجدر بنا أن نقول: التوحد هو اضطراب عصبي نمائي معقد، يتأثر بشدة بعوامل وراثية متعددة ومتفاعلة، والتي بدورها تتفاعل مع عوامل بيئية معينة (خاصة خلال فترتي الحمل والولادة) لتحديد احتمالية ظهور الاضطراب وشدته.

فهم هذا التعقيد ضروري لتطوير استراتيجيات تشخيصية وعلاجية أكثر دقة في المستقبل، وكذلك لتقديم استشارات وراثية مناسبة للعائلات. البحث لا يزال جاريًا لكشف المزيد من أسرار هذه الجينات والعوامل البيئية المتشابكة.